عندما منح مهرجان القاهرة السينمائي الدولي جائزة الهرم الذهبي لإنجاز العمر للمخرج المخضرم يسري نصر الله، عمّت أجواء من الحماسة والفرح في دار الأوبرا خلال حفل الافتتاح، حيث علت صيحات الجمهور وتصفيقهم المستمر لعدة دقائق تعبيرًا عن تقديرهم لهذا التكريم المستحق.
يُعدّ يسري نصر الله واحدًا من أبرز الأسماء في عالم السينما المصرية وأكثرها احترامًا. بأسلوبه الجريء والحساس في السرد السينمائي واهتمامه بتجارب الناس العاديين، حقق شهرة واسعة، حيث تميزت أفلامه بقدرتها على مزج القصص الشخصية بالتعليقات الاجتماعية والسياسية الأوسع. كان من الأوائل الذين أسسوا مشهدًا مستقلًا قويًا في السينما المصرية، وفتحوا الأبواب أمام إنتاجات مشتركة مع أوروبا.
استكشفت أفلام نصر الله قضايا شائكة مثل الصراع الطبقي، وديناميكيات النوع الاجتماعي، والاضطرابات السياسية، وطرحت أسئلة حول الهوية المصرية في العصر الحديث. اتسمت أفلامه بتعمقها وجرأتها في تناول المواضيع المعقدة، ما جعله رمزًا مهمًا في تاريخ السينما المصرية والعربية. امتدت مسيرته المهنية من الثمانينيات حتى اليوم، وشهدت تطورًا مستمرًا يعكس رؤيته الفريدة وأهميته للصناعة السينمائية.
ولد نصر الله عام 1952، ودخل عالم السينما في أوائل الثمانينيات كمساعد للمخرج يوسف شاهين، أحد أكثر المخرجين المصريين تميزًا. تعلّم من شاهين فن المزج بين الشخصي والسياسي، وهو النهج الذي أصبح سمة مميزة لمسيرته. بدأ عمله مع شاهين عام 1982 كمساعد مخرج في فيلم حدوتة مصرية، ثم تعاون معه في كتابة سيناريو وداعًا بونابرت، ما شكّل بداية دخوله لعالم السينما المؤلفة.
في أول أفلامه الإخراجية سرقات صيفية (1988)، يمكن ملاحظة تأثير شاهين عليه، ولكنه سرعان ما طور صوته السينمائي المميز، حيث ركز على شخصيات معقدة تواجه تحديات مجتمعية متعددة. تناول الفيلم التوترات الطبقية والانقسامات بين الأجيال من خلال قصة عائلتين، مسلطًا الضوء على الفجوة بين الأرستقراطية والطبقة العاملة في مصر. حاز الفيلم على إشادة دولية، وأثبت قدرة نصر الله على تجاوز الحدود المحلية.
في فيلم مرسيدس، استكشف نصر الله الأنواع السينمائية ووسع حدود السينما المصرية، مقدمًا عملاً يمزج بين الكوميديا السوداء والتعليق الاجتماعي. تناول الفيلم قضايا مثل العزلة والمراقبة والتفاوت الاقتصادي في سياق سياسي يعكس التحولات السريعة التي شهدتها مصر منذ الخمسينيات وحتى التسعينيات.
أما فيلمه المدينة (1999)، فقد عالج أحلام المهاجرين وواقعهم المرير، وكان من أوائل الأفلام التي علّقت على صعوبة الحياة في الخارج. حاز الفيلم على جائزة لجنة التحكيم في مهرجان لوكارنو، وقدم شخصية علي، الشاب الذي يصارع بين رغبته في الهجرة لتحقيق أحلامه، وضغوط العائلة والتقاليد الثقافية.
وفي باب الشمس، استند نصر الله إلى رواية إلياس خوري ليقدم ملحمة سينمائية تستعرض النضال الفلسطيني. يُعدّ هذا الفيلم نقطة تحول في مسيرته، حيث أكد حضوره الدولي وتناول بعمق قضايا التهجير والمقاومة والحب.
أما احكي يا شهرزاد (2009)، فقد تناول قضايا المرأة والسلطة في مصر، مسلطًا الضوء على مشكلات اجتماعية مثل الزواج القسري والعنف المنزلي. حقق الفيلم نجاحًا دوليًا وأثار جدلاً محليًا، لكنه أضاف إلى رصيد نصر الله كواحد من المخرجين الأكثر تأثيرًا.
بعد ثورة يناير 2011، أخرج فيلم بعد الموقعة (2012)، الذي جسّد معاناة الفقراء الذين استُخدموا كأدوات قمعية خلال الثورة. عرض الفيلم في مهرجان كان السينمائي، وكان خطوة جريئة في تفكيك تعقيدات المرحلة.
وفي الماء والخضرة والوجه الحسن (2016)، عاد نصر الله إلى استكشاف العلاقات الأسرية والضغوط المجتمعية، مقدمًا فيلمًا ذا طابع تجاري بنكهة فنية.
أفلام نصر الله تتميز بتنوع أسلوبي وشدة عاطفية، حيث يمزج بين اللقطات الطويلة والمشاهد الواسعة لإبراز المكان، مما يعكس جمال وتنوع الحياة المصرية، ما جعله أحد أعمدة السينما العربية الحديثة.
.png)