عاد مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الخامسة والأربعين ليعيد الحياة إلى أروقة دار الأوبرا المصرية بعد إلغائه العام الماضي بسبب أهوال الحرب في غزة. هذه الدورة تميزت بتوازن مثير بين المواضيع الجادة وأجواء الحفلات المبهجة، إلى جانب نقاشات غنية في حلقات العمل والفعاليات الصناعية الحافلة، وكل ذلك مكلل بعرض جانبي لأفلام مصرية كلاسيكية تمت استعادتها بعناية.
ترأس لجنة التحكيم هذا العام المخرج البوسني الحائز على جائزة الأوسكار دانيس تانوفيتش، الذي منح جائزة الهرم الذهبي الكبرى لفيلم العام الذي لم يأتِ أبدًا للمخرج الروماني بوغدان موريشان. الفيلم، وهو كوميديا سوداء عن الأيام الأخيرة للشيوعية السوفيتية، اكتسب صدى جديدًا في عصر بوتين الحالي. كما حصلت أفلام من تركيا والصين وإيطاليا والبرازيل وروسيا وغيرها على جوائز رئيسية، لكن أبرز ما ميز هذا العام كان الحضور القوي للأفلام المحلية والإقليمية من مصر وأفريقيا والشرق الأوسط.
من أبرز المحطات، فاز فيلم جاء الربيع ضاحكًا للمخرجة المصرية نهى عادل، وهو الفيلم المصري الوحيد في المسابقة الرسمية، بأربع جوائز. هذا العمل عبارة عن مجموعة قصصية غنية عاطفيًا تتمحور حول النساء في القاهرة. لكن المفاجأة الأكبر جاءت مع فيلم أبو زعبل 89 لباسل مرتضى، الذي حصد ثلاث جوائز. يتناول الفيلم بأسلوب شخصي آثار النشاط السياسي في مصر المعاصرة، مستندًا إلى تجربة والد المخرج وآخرين ممن سجنوا وعُذّبوا في الثمانينيات. الفيلم واجه تحديات كبيرة مع لجنة الرقابة، ولم يتم تأكيد عرضه إلا في الأيام الأخيرة قبل افتتاح المهرجان.
كان لفلسطين حضور بارز في مهرجان هذا العام. في ظل استمرار الصراع في غزة، اختار المنظمون اتخاذ موقف ثقافي واضح. صرّح رئيس المهرجان حسين فهمي أن المهرجان لن يتلقى رعاية من شركات مدرجة على قوائم المقاطعة بسبب دعمها المزعوم لإسرائيل. وأكد فهمي في بيان صحفي أن “المهرجان يقف بثبات مع القضية الفلسطينية، ولن يغير أي تحدٍ هذا الالتزام”.
انعكس هذا الالتزام في البرنامج السينمائي الذي تضمن العديد من الأعمال الفلسطينية. افتتح المهرجان بفيلم أحلام عابرة للمخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي، والذي شارك في المسابقة الدولية. كما حصلت أفلام فلسطينية أخرى على جوائز، أبرزها فيلم حالة شغف لكارول منصور ومنا خالد، وهو وثائقي مؤثر عن الدكتور البريطاني-الفلسطيني غسان أبو ستة، الجراح الشجاع كما مُنح أبو ستة جائزة خاصة.
رغم النجاح الفني، استمرت مشاكل التنظيم بإثارة استياء الجمهور، خاصة فيما يتعلق بشباك التذاكر، حيث واجه الحضور طوابير طويلة وتعطّل الأنظمة. ومن القضايا الأخرى التي تحتاج إلى معالجة، حسبما رصدت صحيفة ذا فيلم فيرديكت، تنظيم الدعوات لحضور العروض الأولى للأفلام المصرية، حيث اشترت شركات الإنتاج كميات كبيرة من التذاكر مما جعل من الصعب على الجمهور العادي حضور هذه العروض.
حقق قسم كلاسيكيات القاهرة نجاحًا لافتًا هذا العام، حيث امتلأت القاعات بعروض نادرة لأفلام مصرية قديمة تمت استعادتها بجودة عالية. هذه المبادرة تأتي في وقت أصبحت فيه العديد من كلاسيكيات السينما المصرية – أقدم صناعة سينمائية في المنطقة وأفريقيا – صعبة المنال، إذ تم بيع حقوقها لجهات متعددة أو فقدت نسخها الأصلية، فيما تعاني النسخ المتاحة على الإنترنت من سوء الجودة. لذلك، تمثل موجة الترميمات التي يقودها المهرجان خطوة واعدة نحو الحفاظ على هذا التراث.
كما أظهرت دورة هذا العام رغبة واضحة في تعزيز التنوع والانفتاح. برز ذلك من خلال أيام القاهرة لصناعة السينما التي سعت إلى جذب جميع صناع الأفلام، من مخرجي السينما الفنية إلى منتجي الأعمال التجارية. كما تم التعاون مع غرفة صناعة السينما المصرية التي فوجئ بعض أعضائها بالدعوة، نظرًا لأن المهرجان عادةً ما كان يركز على جمهور النخبة. هذا التوجه يمكن أن يمهد الطريق لمشاركة أوسع.
امتدت عروض المهرجان إلى خارج مجمع دار الأوبرا لتشمل سينمات مثل VOX في مولات 6 أكتوبر ومدينة نصر، وسينما الزمالك، وجامعة القاهرة الأمريكية بوسط المدينة. جذب ذلك جمهورًا جديدًا من رواد السينما التقليدية الذين اعتادوا على الأفلام التجارية، مما يعكس توسعًا ديموغرافيًا ضروريًا. هذه الجهود قد تسهم في إزالة الاعتقاد الخاطئ لدى كثير من المصريين بأن المهرجانات السينمائية هي فعاليات حصرية للنخبة فقط.
كان الحضور الشبابي لافتًا هذا العام، حيث ازدحمت دار الأوبرا بمجموعات من الشباب يتحدثون عن أفلامهم المفضلة، ويحضرون عروض الأفلام القصيرة، ويلتقطون الصور بجانب ملصقات المهرجان. هذه الروح الشبابية تشير إلى أن مهرجان القاهرة بدأ يجذب جمهورًا جديدًا من عشاق السينما، وصناع الأفلام المستقبليين، والنقاد الواعدين.